فصل: تفسير الآيات رقم (1- 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 100‏]‏

‏{‏ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ‏(‏96‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ‏(‏97‏)‏ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ‏(‏98‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ‏(‏99‏)‏ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏ادفع بالتى‏}‏ بالخصلة التي ‏{‏هِىَ أَحْسَنُ السيئة‏}‏ هو أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل كأنه قال‏:‏ ادفع بالحسنى السيئة والمعنى أصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الاحسان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هي شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ والسيئة‏:‏ الشرك أو الفحش بالسلام أو المنكر بالموعظة‏.‏ وقيل‏:‏ هي منسوخة بآية السيف‏.‏ وقيل‏:‏ محكمة إذ المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى ثلم دين ‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ‏}‏ من الشرك أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم فنجازيهم عليه ‏{‏وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين‏}‏ من وساوسهم ونخساتهم، والهمزة‏:‏ النخس، والهمزات جمع الهمزة ومنه مهماز الرائض، والمعنى أن الشياطين يحثون الناس على المعاصي كما تهمز الراضة الدواب حثاً لها على المشي ‏{‏وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ‏}‏ أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه المكرر لندائه وبالتعوذ من أن يحضروه أصلاً أو عند تلاوة القرآن أو عند النزع ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت‏}‏ «حتى» تتعلق ب ‏{‏يصفون‏}‏ أي لا يزالون يشركون إلى وقت مجيء الموت، أو لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما مذكور على وجه الاعتراض، والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم ‏{‏قَالَ رَبّ ارجعون‏}‏ أي ردوني إلى الدنيا خاطب الله بلفظ الجمع للتعظيم كخطاب الملوك ‏{‏لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ‏}‏ في الموضع الذي تركت وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى، قال قتادة‏:‏ ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولكن ليتدارك ما فرط‏.‏ ‏{‏لعلي‏}‏ ساكنة الياء كوفي وسهل ويعقوب ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد ‏{‏إِنَّهَا كَلِمَةٌ‏}‏ المراد بالكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض وهو قوله‏:‏ ‏{‏رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت‏}‏ ‏{‏هُوَ قَائِلُهَا‏}‏ لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والندم عليه ‏{‏وَمِن وَرَائِهِمْ‏}‏ أي أمامهم والضمير للجماعة ‏{‏بَرْزَخٌ‏}‏ حائل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ‏{‏إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ لم يرد أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أن لا رجوع بعد البعث إلا إلى الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 104‏]‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏101‏)‏ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏103‏)‏ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور‏}‏ قيل‏:‏ إنها النفخة الثانية ‏{‏فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ‏}‏ وبالإدغام‏:‏ أبو عمرو لاجتماع المثلين وإن كانا من كلمتين يعني يقع التقاطع بينهم حيث يتفرقون مثابين ومعاقبين ولا يكون التواصل بينهم بالأنساب إذ يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، وإنما يكون بالأعمال‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا لأن كلاً مشغول عن سؤال صاحبه بحاله‏.‏ ولا تناقض بين هذا وبين قوله ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ فللقيامة مواطن‏.‏ ففي موطن يشتد عليهم الخوف فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون فيتساءلون‏.‏

‏{‏فَمَن ثَقُلَتْ موازينه‏}‏ جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله تعالى من قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 105‏]‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ موازينه‏}‏ بالسيئات والمراد الكفار ‏{‏فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ غبنوها ‏{‏فِى جَهَنَّمَ خالدون‏}‏ بدل من ‏{‏خسروا أنفسهم‏}‏ ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر ل ‏{‏أولئك‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف ‏{‏تَلْفَحُ‏}‏ أي تحرق ‏{‏وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كالحون‏}‏ عابسون فيقال لهم

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 110‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏105‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ‏(‏106‏)‏ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ‏(‏107‏)‏ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ‏(‏108‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَكُنْ ءاياتى‏}‏ أي القرآن ‏{‏تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ وتزعمون أنها ليست من الله تعالى‏.‏

‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا‏}‏ ملكتنا ‏{‏شِقْوَتُنَا‏}‏ ‏{‏شقاوتنا‏}‏ حمزة وعلي وكلاهما مصدر أي شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها‏.‏ وقول أهل التأويل غلب علينا ما كتب علينا من الشقاوة لا يصح، لأنه إنما يكتب ما يفعل العبد وما يعلم أنه يختاره ولا يكتب غير الذي علم أنه يختاره فلا يكون مغلوباً ومضطراً في الفعل، وهذا لأنهم إنما يقولون ذلك القول اعتذاراً لما كان منهم من التفريط في أمره فلا يجمل أن يطلبوا لأنفسهم عذراً فيما كان منهم ‏{‏وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ‏}‏ عن الحق والصواب ‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا‏}‏ أي من النار ‏{‏فَإِنْ عُدْنَا‏}‏ إلى الكفر والتكذيب ‏{‏فَإِنَّا ظالمون‏}‏ لأنفسنا‏.‏

‏{‏قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا‏}‏ اسكتوا سكوت ذلة وهوان ‏{‏وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ في رفع العذاب عنكم فإنه لا يرفع ولا يخفف‏.‏ قيل‏:‏ هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير أن يحضروني‏.‏ ‏{‏ارجعوني‏}‏ ‏{‏ولا تكلموني‏}‏ بالياء في الوصل والوقف‏:‏ يعقوب وغيره بلا ياء ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ إن الأمر والشأن ‏{‏كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين فاتخذتموهم سِخْرِيّاً‏}‏ مفعول ثان وبالضم‏:‏ مدني وحمزة وعلي، وكلاهما مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسبة مبالغة‏.‏ قيل‏:‏ هم الصحابة رضي الله عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ أهل الصفة خاصة ومعناه اتخذتموهم هزؤوا وتشاغلتم بهم ساخرين ‏{‏حتى أَنسَوْكُمْ‏}‏ بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ‏{‏ذِكْرِى‏}‏ فتركتموه أي كان التشاغل بهم سبباً لنسيانكم ذكري ‏{‏وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ‏}‏ استهزاء بهم

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 116‏]‏

‏{‏إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏114‏)‏ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏(‏115‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ بصبرهم ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ أي لأنهم ‏{‏هُمُ الفائزون‏}‏ ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً أي جزيتهم اليوم فوزهم لأن جزى يتعدى إلى اثنين ‏{‏وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً‏}‏ ‏[‏الدهر‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏إنهم‏}‏ حمزة وعلي على الاستئناف أي إنهم هم الفائزون لا أنتم‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة‏.‏ ‏{‏قل‏}‏ مكي وحمزة وعلي أمر لمالك أن يسألهم ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرض‏}‏ في الدنيا ‏{‏عَدَدَ سِنِينَ‏}‏ أي كم عدد سنين لبثتم فكم نصب ب ‏{‏لبثتم‏}‏ و‏{‏عدد‏}‏ تمييز ‏{‏قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ استقصروا مدة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها، لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة ‏{‏فَاسْأَلِ العادين‏}‏ أي الحساب أو الملائكة الذين يعدون أعمار العباد وأعمالهم ‏{‏فسل‏}‏ بلا همز‏:‏ مكي وعلي ‏{‏قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي ما لبثتم إلا زمناً قليلاً أو لبثاً قليلاً ‏{‏لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ صدقهم الله تعالى في تقالهم لسني لبثهم في الدنيا ووبخههم على غفلتهم التي كانوا عليها ‏{‏قل إن‏}‏ حمزة وعلي ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً‏}‏ حال أي عابثين أو مفعول له أي للعبث ‏{‏وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ وبفتح التاء وكسر الجيم‏:‏ حمزة وعلي ويعقوب وهو معطوف على ‏{‏أَنَّمَا خلقناكم‏}‏ أو على ‏{‏عبثاً‏}‏ أي للعبث ولنترككم غير مرجوعين بل خلقناكم للتكليف، ثم للرجوع من دار التكليف إلى دار الجزاء فنثيب المحسن ونعاقب المسيء ‏{‏فتعالى الله‏}‏ عن أن يخلق عبثاً ‏{‏الملك الحق‏}‏ الذي يحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه، أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم‏}‏ وصف العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين‏.‏ وقرئ شاذاً برفع ‏{‏الكريم‏}‏ صفة للرب تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 118‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏117‏)‏ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ‏}‏ أي لا حجة ‏{‏لَهُ بِهِ‏}‏ اعتراض بين الشرط والجزاء كقولك «من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان منه فإن الله مثيبه» أو صفة لازمة جيء بها للتوكيد كقولك «يطير بجناحيه لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان» ‏{‏فَإِنَّمَا حِسَابُهُ‏}‏ أي جزاؤه وهذا جزاء الشرط ‏{‏عِندَ رَبّهِ‏}‏ أي فهو يجازيه لا محالة ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون‏}‏ جعل فاتحة السورة ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ وخاتمتها ‏{‏إنه لا يفلح الكافرون‏}‏ فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة‏.‏ ثم علمنا سؤال المغفرة والرحمة بقوله ‏{‏وَقُل رَّبّ اغفر وارحم‏}‏ ثم قال ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين‏}‏ لأن رحمته إذا أدركت أحداً أغنته عن رحمة غيره ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته‏.‏

سورة النور

مدنية وهي ستون وأربع آيات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏سُورَةٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة ‏{‏أنزلناها‏}‏ صفة لها‏.‏ وقرأ طلحة ‏{‏سورةً‏}‏ على «زيدا ضربته» أو على «اتل سورة»‏.‏ والسورة الجامعة لجمل آيات بفاتحة لها وخاتمة واشتقاقها من سور المدينة ‏{‏وفرضناها‏}‏ أي فرضنا أحكامها التي فيها‏.‏ وأصل الفرض القطع أي جعلناها مقطوعاً بها‏.‏ وبالتشديد‏:‏ مكي وأبو عمرو للمبالغة في الإيجاب وتوكيده، أو لأن فيها فرائض شتى، أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم ‏{‏وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِْنَاتٍ‏}‏ أي دلائل واضحات ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ لكي تتعظوا‏.‏ وبتخفيف الذال‏:‏ حمزة وعلي وخلف وحفص‏.‏ ثم فصل أحكامها فقال ‏{‏الزانية والزانى‏}‏ رفعهما على الابتداء والخبر محذوف أي فيما فرض عليكم الزانية والزاني أي جلدهما، أو الخبر ‏{‏فاجلدوا‏}‏ ودخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمينه معنى الشرط وتقديره‏:‏ التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنى فاجلدوه‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فاجلدوهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من ‏{‏سورة أنزلناها‏}‏ لأجل الأمر‏.‏

‏{‏فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ‏}‏ الجلد ضرب الجلد وفيه إشارة إلى أنه لا يبالغ ليصل الألم إلى اللحم‏.‏ والخطاب للأئمة لأن إقامة الحد من الدين وهي على الكل إلا أنهم لا يمكنهم الاجتماع فينوب الإمام منابهم، وهذا حكم حر ليس بمحصن إذ حكم المحصن الرجم وشرائط إحصان الرجم‏:‏ الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والتزوج بنكاح صحيح والدخول‏.‏ وهذا دليل على أن التغريب غير مشروع لأن الفاء إنما يدخل على الجزاء وهو اسم للكافي، والتغريب المروي منسوخ بالآية كما نسخ الحبس والأذى في قوله ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت‏}‏ وقوله ‏{‏فَئَاذُوهُمَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 15‏]‏ بهذه الآية ‏{‏وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ‏}‏ أي رحمة والفتح لغة وهي قراءة مكي‏.‏ وقيل‏:‏ الرأفة في دفع المكروه والرحمة في إيصال المحبوب‏.‏ والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ولا يأخذهم اللين في استيفاء حدوده فيعطلوا الحدود أو يخففوا الضرب ‏{‏فِى دِينِ الله‏}‏ أي في طاعة الله أو حكمه ‏{‏إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر‏}‏ من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه، وجواب الشرط مضمر أي فاجلدوا ولا تعطلوا الحد ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا‏}‏ وليحضر موضع حدهما وتسميته عذاباً دليل على أنه عقوبة ‏{‏طَائِفَةٌ‏}‏ فرقة يمكن أن تكون حلقة ليعتبروا وينزجر هو وأقلها ثلاثة أو أربعة وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول شيء‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أربعة إلى أربعين رجلاً ‏{‏مِنَ المؤمنين‏}‏ من المصدقين بالله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ‏}‏ أي الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في خبيثة من شكله، أو في مشركة والخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة، أو المشركين فالآية تزهيد في نكاح البغايا إذ الزنا عديل الشرك في القبح، والإيمان قرين العفاف والتحصن وهو نظير قوله ‏{‏الخبيثات للخبيثين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏ وقيل‏:‏ كان نكاح الزانية محرماً في أول الإسلام ثم نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏ وقيل‏:‏ المراد بالنكاح الوطء، لأن غير الزاني يستقذر الزانية ولا يشتهيها وهو صحيح لكنه يؤدي إلى قولك «الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا يزنى بها إلا زان»‏.‏ وسئل صلى الله عليه وسلم عمن زنى بامرأة ثم تزوجها فقال ‏"‏ أوله سفاح وآخره نكاح ‏"‏ ومعنى الجملة الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر، ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان‏.‏ وقدمت الزانية على الزاني أولاً ثم قدم عليها ثانياً لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلاً في ذلك بديء بذكرها‏.‏ وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه الخاطب ومنه بدء الطلب‏.‏ وقريء ‏{‏لا ينكح‏}‏ بالجزم على النهي، وفي المرفوع أيضاً معنى النهي ولكن أبلغ وآكد، ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى أن عادتهما جارية على ذلك وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة وينتصون عنها ‏{‏وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين‏}‏ أي الزنا أو نكاح البغايا لقصد التكسب بالزنا أو لما فيه من التشبيه بالفساق وحضور مواقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يَرْمُونَ المحصنات‏}‏ وبكسر الصاد‏:‏ علي؛ أي يقذفون بالزنا الحرائر والعفائف المسلمات المكلفات‏.‏ والقذف يكون بالزنا وبغيره والمراد هنا قذفهن بالزنا بأن يقول يا زانية لذكر المحصنات عقيب الزواني ولاشتراط أربعة شهداء بقوله ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء‏}‏ أي ثم لم يأتوا بأربعة شهود يشهدون على الزنا لأن القذف بغير الزنا بأن يقول يا فاسق يا آكل الربا يكفي فيه شاهدان وعليه التعزير‏.‏ وشروط إحصان القذف‏:‏ الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والعفة عن الزنا‏.‏ والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف ‏{‏فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً‏}‏ إن كان القاذف حراً، ونصب ‏{‏ثمانين‏}‏ نصب المصادر كما نصب ‏{‏مائة جلدة‏}‏ و‏{‏جلدة‏}‏ نصب على التمييز ‏{‏وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً‏}‏ نكر شهادة في موضع النفي فتعم كل شهادة‏.‏ ورد الشهادة من الحد عندنا ويتعلق باستيفاء الحد أو بعضه على ما عرف، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يتعلق رد شهادته بنفس القذف‏.‏ فعندنا جزاء الشرط الذي هو الرمي الجلد ورد الشهادة على التأبيد وهو مدة حياتهم ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ كلام مستأنف غير داخل في حيز جزاء الشرط كأنه حكاية حال الرامين عند الله تعالى بعد انقضاء الجملة الشرطية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ أي القذف ‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏ أحوالهم استثناء من الفاسقون ويدل عليه ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي يغفر ذنوبهم ويرحمهم‏.‏ وحق الاستثناء أن يكون منصوباً عندنا لأنه عن موجب، وعند من جعل الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية أن يكون مجروراً بدلاً من «هم» في ‏{‏لهم‏}‏‏.‏

ولما ذكر حكم قذف الأجنبيات بين حكم قذف الزوجات فقال ‏{‏والذين يَرْمُونَ أزواجهم‏}‏ أي يقذفون زوجاتهم بالزنا ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء‏}‏ أي لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به ‏{‏إِلاَّ أَنفُسُهُمْ‏}‏ يرتفع على البدل من شهداء ‏{‏فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ‏}‏ بالرفع كوفي غير أبي بكر على أنه خبر والمبتدأ ‏{‏فشهادة أحدهم‏}‏ وغيرهم بالنصب لأنه في حكم المصدر بالإضافة إلى المصدر، والعامل فيه المصدر الذي هو ‏{‏فشهادة أحدهم‏}‏ وعلى هذا خبره محذوف تقديره فواجب شهادة أحدهم أربع ‏{‏شهادات بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين‏}‏ فيما رماها به الزنا ‏{‏والخامسة‏}‏ لا خلاف في رفع الخامسة هنا في المشهور والتقدير والشهادة الخامسة ‏{‏أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ‏}‏ فهي مبتدأ وخبر ‏{‏إِن كَانَ مِنَ الكاذبين‏}‏ فيما رماها به من الزنا ‏{‏وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب‏}‏ ويدفع عنها الحبس وفاعل يدرأ ‏{‏أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ‏}‏ إن الزوج ‏{‏لَمِنَ الكاذبين‏}‏ فيما رماني به من الزنا

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏9‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ‏}‏ أي الزوج ‏{‏مِنَ الصادقين‏}‏ فيما رماني به من الزنا‏.‏

ونصب حفص ‏{‏الخامسة‏}‏ عطفاً على ‏{‏أربع شهادات‏}‏ وغيره رفعها بالابتداء و‏{‏أن غضب الله‏}‏ خبره‏.‏ وخفف نافع ‏{‏أن لعنة الله‏}‏ و‏{‏أن غضب الله‏}‏ بكسر الضاد وهما في حكم المثقلة و‏{‏أن غضب الله‏}‏ سهل ويعقوب وحفص وجعل في جانبها لأن النساء يستعملن اللعن كثيراً كما ورد به الحديث‏.‏ «فربما يجترئن على الإقدام لكثرة جري اللعن على ألنستهن وسقوط وقوعه عن قلوبهن»، فذكر الغضب في جانبهن ليكون رادعاً لهن‏.‏ والأصل أن اللعان عندنا شهادات مؤكدات بالإيمان مقرونة باللعن قائمة مقام حد القذف في حقه ومقام حد الزنا في حقها، لأن الله تعالى سماه شهادة‏.‏ فإذا قذف الزوج زوجته بالزنا وهما من أهل الشهادة صح اللعان بينهما، وإذا التعنا كما بين في النهر لا تقع الفرقة حتى يفرق القاضي بينهما‏.‏ وعند زفر رحمه الله تعالى تقع بتلاعنهما والفرقة تطليقة بائنة، وعند أبي يوسف وزفر والشافعي تحريم مؤبد‏.‏ ونزلت آية اللعان في هلال بن أمية أو عويمر حيث قال‏:‏ وجدت على بطن امرأتي خولة شريك بن سحماء فكذبته فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله‏}‏ تفضله ‏{‏عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ نعمته ‏{‏وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ‏}‏ جواب «لولا» محذوف أي لفضحكم أو لعاجلكم بالعقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك‏}‏ هو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وأصله الأفك وهو القلب لأنه قول مأفوك عن وجهه والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله عنها، قالت عائشة‏:‏ فقدت عقداً في غزوة بني المصطلق فتخلفت ولم يعرف خلو الهودج لخفتي، فلما ارتحلوا أناخ لي صفوان بن المعطل بعيره وساقه حتى أتاهم بعد ما نزلوا فهلك فيّ من هلك، فاعتللت شهراً وكان عليه الصلاة والسلام يسأل «كيف أنت» ولا أرى منه لطفاً كنت أراه حتى عثرت خالة أبي أم مسطح فقالت‏:‏ تعس مسطح فأنكرت عليها فأخبرتني بالإفك، فلما سمعت ازددت مرضاً وبت عند أبوي لا يرقأ لي دمع وما أكتحل بنوم وهما يظنان أن الدمع فالق كبدي حتى قال عليه الصلاة والسلام «ابشري يا حميراء فقد أنزل الله براءتك» فقلت‏:‏ بحمد الله لا بحمدك ‏{‏عُصْبَةٌ‏}‏ جماعة من العشرة إلى الأربعين واعصوصبوا اجتمعوا وهم‏:‏ عبد الله بن أبي رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ من جماعة المسلمين وهم ظنوا أن الإفك وقع من الكفار دون من كان من المؤمنين ‏{‏لاَ تَحْسَبُوهُ‏}‏ أي الإفك ‏{‏شَرّاً لَّكُمْ‏}‏ عند الله ‏{‏بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ لأن الله أثابكم عليه وأنزل في البراءة منه ثماني عشرة آية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان ومن ساءه ذلك من المؤمنين ‏{‏لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم‏}‏ أي على كل امريء من العصبة جزاء إثمه على مقدار خوضه فيه، وكان بعضهم ضحك وبعضهم تكلم فيه وبعضهم سكت‏.‏

‏{‏والذى تولى كِبْرَهُ‏}‏ أي عظمه عبد الله بن أبيّ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ أي من العصبة ‏{‏لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ أي جهنم‏.‏ يحكى أن صفوان مر بهودجها عليه وهو في ملأ من قومه فقال‏:‏ من هذه‏؟‏ فقالوا‏:‏ عائشة‏.‏ فقال‏:‏ والله ما نجت منه ولا نجا منها‏.‏ ثم وبخ الخائضين فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْلاَ‏}‏ هلا ‏{‏إِذْ سَمِعْتُمُوهُ‏}‏ أي الإفك ‏{‏ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ بالذين منهم فالمؤمنون كنفس واحدة وهو كقوله ‏{‏وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏خَيْرًا‏}‏ عفافاً وصلاحاً وذلك نحو ما يروى أن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام‏:‏ أنا قاطع بكذب المنافقين لأن الله عصمك من وقوع الذباب على جلدك لأنه يقع على النجاسات فيتلطخ بها، فلما عصمك الله من ذلك القدر من القذر فكيف لا يعصمك عن صحبة من تكون متلطخة بمثل هذه الفاحشة‏؟‏ وقال عثمان‏:‏ إن الله ما أوقع ظلك على الأرض لئلا يضع إنسان قدمه على ذلك الظل، فلما لم يمكن أحداً من وضع القدم على ظلك كيف يمكن أحداً من تلويث عرض زوجتك‏؟‏ وكذا قال علي رضي الله عنه‏:‏ إن جبريل أخبرك أن على نعليك قذراً وأمرك بإخراج النعل عن رجلك بسبب ما التصق به من القذر فكيف لا يأمرك بإخراجها بتقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش‏.‏ وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته‏:‏ ألا ترين ما يقال‏؟‏ فقالت‏:‏ لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله سوءاً‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ قالت‏:‏ ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير مني وصفوان خير منك‏.‏ وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر ولم يقل «ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم» ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بإخوانه ‏{‏وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ‏}‏ كذب ظاهر لا يليق بهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء‏}‏ هلا جاؤوا على القذف لو كانوا صادقين بأربعة شهداء ‏{‏فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء‏}‏ الأربعة ‏{‏فَأُوْلَئِكَ عِندَ الله‏}‏ أي في حكمه وشريعته ‏{‏هُمُ الكاذبون‏}‏ أي القاذفون لأن الله تعالى جعل التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب ثبوت الشهادة الشهود الأربعة وانتفاؤها، والذين رموا عائشة رضي الله عنها لم يكن لهم بينة على قولهم فكانوا كاذبين ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ «لولا» هذه لامتناع الشيء لوجود غيره بخلاف ما تقدم أي‏:‏ ولولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أترحم عليكم في الآخرة في العفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك، يقال أفاض في الحديث وخاض واندفع ‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف ل ‏{‏مسكم‏}‏ أو ل ‏{‏أفضتم‏}‏ ‏{‏تَلَقَّوْنَهُ‏}‏ يأخذه بعضكم من بعض‏.‏ يقال تلقى القول وتلقنه وتلقفه ‏{‏بِأَلْسِنَتِكُمْ‏}‏ أي أن بعضكم كان يقول لبعض‏:‏ هل بلغك حديث عائشة‏؟‏ حتى شاع فيما بينهم وانتشر فلم يبق بيت ولا نادٍ إلا طار فيه ‏{‏وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ إنما قيد بالأفواه مع أن القول لا يكون إلا بالفم لأن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ثم يترجم عنه اللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب كقوله ‏{‏يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏ ‏{‏وَتَحْسَبُونَهُ‏}‏ أي خوضكم في عائشة رضي الله عنها ‏{‏هَيّناً‏}‏ صغيرة ‏{‏وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ‏}‏ كبيرة‏.‏ وجزع بعضهم عند الموت فقيل له في ذلك فقال‏:‏ أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْلاَ‏}‏ وهلا ‏{‏إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا‏}‏ فصل بين لولا و‏{‏قُلْتُمْ‏}‏ بالظرف لأن للظروف شأناً وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وأنها لا تنفك عنها فلذا يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها‏.‏ وفائدة تقديم الظرف أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم قدم، والمعنى هلا قلتم إذ سمعتم الإفك ما يصح لنا أن نتكلم بهذا ‏{‏سبحانك‏}‏ للتعجب من عظم الأمر ومعنى التعجب في كلمة التسبيح أن الأصل أن يسبح الله عن رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، أو لتنزيه الله من أن تكون حرمة نبيه فاجرة‏.‏ وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة لأن النبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه والكفر غير منفر عندهم، وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات ‏{‏هذا بهتان‏}‏ زور تبهت من يسمع ‏{‏عظِيمٌ‏}‏ وذكر فيما تقدم هذا إفك مبين، ويجوز أن يكونوا أمروا بهما مبالغة في التبري ‏{‏يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ‏}‏ في أن تعودوا ‏{‏لِمِثْلِهِ‏}‏ لمثل هذا الحديث من القذف أو استماع حديثه ‏{‏أَبَدًا‏}‏ ما دمتم أحياء مكلفين ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ فيه تهييج لهم ليتعظوا وتذكير بما يوجب ترك العود وهو الإيمان الصادّ عن كل قبيح

‏{‏وَيُبَيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ الدلالات الواضحات وأحكام الشرائع والآداب الجميلة ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بكم وبأعمالكم ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يجزي على وفق أعمالكم أو علم صدق نزاهتها وحكم ببراءتها‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِى الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي ما قبح جداً، والمعنى يشيعون الفاحشة عن قصد الإشاعة ومحبة لها ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدنيا‏}‏ بالحد‏.‏ ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي وحساناً ومسطحاً الحد ‏{‏والآخرة‏}‏ بالنار وعدها إن لم يتوبوا ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ بواطن الأمور وسرائر الصدور ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة وهو معاقبه عليها

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ لعجل لكم العذاب وكرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب مع حذف الجواب مبالغة في المنة عليهم والتوبيخ لهم ‏{‏وَأَنَّ الله رَءوفٌ‏}‏ حيث أظهر براءة المقذوف وأثاب ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بغفرانه جناية القاذف إذا تاب‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ أي آثاره ووساوسه بالإصغاء إلى الإفك والقول فيه ‏{‏وَمَن يَتَّبِعْ خطوات الشيطان فَإِنَّهُ‏}‏ فإن الشيطان ‏{‏يَأْمُرُ بالفحشاء‏}‏ ما أفرط قبحه ‏{‏والمنكر‏}‏ ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً‏}‏ ولولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة الممحصة لما طهر منكم أحد آخر الدهر من دنس إثم الإفك ‏{‏ولكن الله يُزَكّى مَن يَشَاء‏}‏ يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محضوها ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لقولهم ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بضمائرهم وإخلاصهم ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ‏}‏ ولا يحلف من ائتلى إذا حلف افتعال من الألية أولا يقصر من الألو ‏{‏أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ‏}‏ في الدين ‏{‏والسعة‏}‏ في الدنيا ‏{‏أَن يُؤْتُواْ‏}‏ أي لا يؤتوا إن كان من الألية ‏{‏أُوْلِى القربى والمساكين والمهاجرين فِى سَبِيلِ الله‏}‏ أي لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان، أو لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها ‏{‏وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ‏}‏ العفو الستر والصفح الإعراض أي ليتجاوزوا عن الجفاء وليعرضوا عن العقوبة ‏{‏أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ‏}‏ فليفعلوا بهم ما يرجون أن يفعل بهم ربهم مع كثرة خطاياهم ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ فتأدبوا بأدب الله واغفروا وارحموا، نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح ابن خالته لخوضه في عائشة رضي الله عنها وكان مسكيناً بدرياً مهاجراً، ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قال‏:‏ بلى أحب أن يغفر الله لي ورد إلى مسطح نفقته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات‏}‏ العفائف ‏{‏الغافلات‏}‏ السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجر بن الأمور ‏{‏المؤمنات‏}‏ بما يجب الايمان به‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هن أزواجه عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقيل‏:‏ هن جميع المؤمنات إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب‏.‏ وقيل‏:‏ أريدت عائشة رضي الله عنها وحدها‏.‏ وإنما جمع لأن من قذف واحدة من نساء النبي عليه الصلاة والسلام فكأنه قذفهن ‏{‏لُعِنُواْ فِى الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ جعل القذفة ملعونين في الدارين وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة إن لم يتوبوا، والعامل في ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ‏}‏ يعذبون وبالياء حمزة وعلي ‏{‏أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي بما أفكوا أو بهتوا والعامل في ‏{‏يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق‏}‏ بالنصب صفة للدين وهو الجزاء، ومعنى الحق الثابت الذي هم أهله‏.‏ وقرأ مجاهد بالرفع صفة لله كقراءة أبيّ ‏{‏يوفيهم الله الحق دينهم‏}‏ وعلى قراءة النصب يجوز أن يكون ‏{‏الحق‏}‏ وصفاً لله بأن ينتصب على المدح ‏{‏وَيَعْلَمُونَ‏}‏ عند ذلك ‏{‏أَنَّ الله هُوَ الحق المبين‏}‏ لارتفاع الشكوك وحصول العلم الضروري‏.‏ ولم يغلظ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تغليظه في إفك عائشة رضي الله عنها، فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر، وما ذاك إلا لأمر‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة‏.‏ وهذا منه تعظيم ومبالغة في أمر الإفك‏.‏ ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة‏:‏ برأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم رضي الله عنها بإنطاق ولدها، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآي العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر بهذه المبالغات، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك، وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسوله والتنبيه على إنافة محله صلى الله عليه وسلم وعلى آله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏الخبيثات‏}‏ من القول تقال ‏{‏لِلْخَبِيثِينَ‏}‏ من الرجال والسناء ‏{‏والخبيثون‏}‏ منهم يتعرضون ‏{‏للخبيثات‏}‏ من القول وكذلك ‏{‏والطيبات لِلطَّيّبِينَ والطيبون للطيبات أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ‏}‏ أي فيهم و‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الطيبين وأنهم مبرؤون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم، وهو كلام جارٍ مجرى المثل لعائشة رضي الله عنها وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب، ويجوز أن يكون إشارة إلى أهل البيت وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك، وأن يراد بالخبيثات والطيبات النساء الخبائث يتزوجن الخباث والخباث تتزوج الخبائث وكذا أهل الطيب ‏{‏لَهُم مَّغْفِرَةٌ‏}‏ مستأنف أو خبر بعد خبر ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ في الجنة‏.‏ ودخل ابن عباس رضي الله عنهما على عائشة رضي الله عنها في مرضها وهي خائفة من القدوم على الله تعالى فقال‏:‏ لا تخافي لأنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم وتلا الآية فغشي عليها فرحاً بما تلا‏.‏ وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ لقد أعطيت تسعاً ما أعطيتهن امرأة، نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر عليه الصلاة والسلام أن يتزوجني، وتزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري، وتوفي عليه الصلاة والسلام ورأسه في حجري، وقبر في بيتي، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه وأنا ابنة خليفته وصديقه، ونزل عذري من السماء، وخلقت طيبة عند طيب، ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً‏.‏ وقال حسان معتذراً في حقها‏:‏

حصانٌ رزانٌ ما تزن بريبة *** وتسبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس ديناً ومنصباً *** نبي الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حيّ من لؤي بن غالب *** كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها *** وطهرها من كل شين وباطل

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ‏}‏ أي بيوتاً لستم تملكونها ولا تسكنونها ‏{‏حتى تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏ أي تستأذنوا، عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد قرأ به، والاستئناس في الأصل الاستعلام والاستكشاف استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً أي حتى تستعلموا أيطلق لكم الدخول أم لا، وذلك بتسبيحة أو بتكبيرة أو بتحميدة أو بتنحنح ‏{‏وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا‏}‏ والتسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع، وقيل‏:‏ إن تلاقيا يقدم التسليم وإلا فالاستئذان ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الاستئذان والتسليم ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من تحية الجاهلية والدمور وهو الدخول بغير إذن فكأن الرجل من أهل الجاهلية إذا دخل بيت غيره يقول حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي قيل لكم هذا لكي تذكروا وتتعظوا وتعملوا ما أمرتم به في باب الاستئذان ‏{‏فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا‏}‏ في البيوت ‏{‏أَحَدًا‏}‏ من الآذنين ‏{‏فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ‏}‏ حتى تجدوا من يأذن لكم، أو فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخولها إلا بإذن أهلها لأن التصرف في ملك الغير لا بد من أن يكون برضاه ‏{‏وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا‏}‏ أي إذا كان فيها قوم فقالوا ارجعوا ‏{‏فارجعوا‏}‏ ولا تلحوا في إطلاق الإذن ولا تلجوا في تسهيل الحجاب ولا تقفوا على الأبواب، لأن هذا مما يجلب الكراهة فإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك، وعن أبي عبيد‏:‏ ما قرعت باباً على عالم قط‏.‏ ‏{‏هُوَ أزكى لَكُمْ‏}‏ أي الرجوع أطيب وأطهر لما فيه من سلامة الصدور والبعد عن الريبة أو أنفع وأنمى خيراً ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ وعيد للمخاطبين بأنه عالم بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموف جزاءه عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ‏}‏ في أن تدخلوا ‏{‏بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ‏}‏ استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها كالخانات والربط وحوانيت التجار ‏{‏فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ‏}‏ أي منفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع‏.‏ وقيل‏:‏ الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ‏}‏ وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة ‏{‏قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم‏}‏ «من» للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل ‏{‏وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ‏}‏ عن الزنا ولم يدخل «من» هنا لأن الزنا لا رخصة فيه بوجه، ويجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفها وقدميها في رواية، وإلى رأس المحارم والصدر والساقين والعضدين ‏{‏ذلك‏}‏ أي غض البصر وحفظ الفرج ‏{‏أزكى لَهُمْ‏}‏ أي أطهر من دنس الاثم ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ‏}‏ فيه ترغيب وترهيب يعني أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم وكيف يجيلون أبصارهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون‏.‏

‏{‏وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ‏}‏ أمرن بغض الأبصار فلا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبتيه، وإن اشتهت غضت بصرها رأساً ولا تنظر إلى المرأة إلا إلى مثل ذلك وغض بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها‏.‏ وإنما قدم غض الأبصار على حفظ الفروج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور فبذر الهوى طموح العين ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏ الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، والمعنى ولا يظهرن مواضع الزينة إذ إظهار عين الزينة وهي الحلي ونحوها مباح فالمراد بها مواضعها أو إظهارها وهي في مواضعها لإظهار مواضعها لا لإظهار أعيانها، ومواضعها الرأس والأذن والعنق والصدر والعضدان والذراع والساق فهي للإكليل والقرط والقلادة والوشاح والدملج والسوار والخلخال ‏{‏إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره وهو الوجه والكفان والقدمان، ففي سترها حرج بين فإن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهن ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ‏}‏ وليضعن من قولك «ضربت بيدي على الحائط» إذا وضعتها عليه ‏{‏بِخُمُرِهِنَّ‏}‏ جمع خمار ‏{‏على جُيُوبِهِنَّ‏}‏ بضم الجيم‏:‏ مدني وبصري وعاصم‏.‏ كانت جيوبهن واسعة تبدو منها صدورهن وما حواليها وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من أقدامهن حتى تغطيها‏.‏

‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏ أي مواضع الزينة الباطنة كالصدر والساق والرأس ونحوها ‏{‏إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ‏}‏ لأزواحهن جمع بعل ‏{‏أو ءَابآئهن‏}‏ ويدخل فيهم الأجداد ‏{‏أو آباء بعولتهن‏}‏ فقد صاروا محارم ‏{‏أَوْ أَبْنَائِهِنَّ‏}‏ ويدخل فيهم النوافل ‏{‏أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ‏}‏ فقد صاروا محارم أيضاً ‏{‏أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن‏}‏ ويدخل فيهم النوافل وسائر المحارم كالأعمام والأخوال وغيرهم دلالة ‏{‏أَوْ نِسَائِهِنَّ‏}‏ أي الحرائر لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن‏}‏ أي إمائهن ولا يحل لبعدها أن ينظر إلى هذه المواضع منها خصياً كان أو عنيناً أو فحلاً‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لا تغرنكم سورة النور فإنها في الإماء دون الذكور‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها ‏{‏أَوِ التابعين غَيْرِ‏}‏ بالنصب‏:‏ شامي ويزيد وأبو بكر على الاستثناء أو الحال، وغيرهم بالجر على البدل أو على الوصفية ‏{‏أُوْلِى الإربة‏}‏ الحاجة إلى النساء‏.‏ قيل‏:‏ هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم إلى النساء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمرهن، أو شيوخ صلحاء، أو العنين أو الخصي والمخنث‏.‏ وفي الأثر أنه المجبوب والأول الوجه ‏{‏مِنَ الرجال‏}‏ حال ‏{‏أَوِ الطفل الذين‏}‏ هو جنس فصلح أن يراد به الجمع ‏{‏لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء‏}‏ أي لم يطلعوا لعدم الشهوة من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه، أو لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء من ظهر على فلان إذا قوي عليه ‏{‏وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ‏}‏ كانت المرأة تضرب الأرض برجليها إذا مشت لتسمع قعقعة خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فنهين عن ذلك إذ سماع صوت الزينة كإظهارها ومنه سمي صوت الحلي وسواساً ‏{‏وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون‏}‏ ‏{‏أَيُّهُ‏}‏ شامي إتباعاً للضمة قبلها بعد حذف الألف لالتقاء الساكنين، وغيره على فتح الهاء لأن بعدها ألفاً في التقدير ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ العبد لا يخلو عن سهو وتقصير في أوامره ونواهيه وإن اجتهد‏.‏ فلذا وصى المؤمنين جميعاً بالتوبة وبتأميل الفلاح إذا تابوا وقيل‏:‏ أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة، وظاهر الآية يدل على أن العصيان لا ينافي الإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ‏}‏ الأيامى جمع أيم وهو من لا زوج له رجلاً أو امرأة، بكراً كان أو ثيباً، وأصله أيائم فقلبت ‏{‏والصالحين‏}‏ أي الخيرين أو المؤمنين، والمعنى زوجوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر ومن كان فيه صلاح ‏{‏مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ‏}‏ أي من غلمانكم وجواريكم والأمر للندب إذ النكاح مندوب إليه ‏{‏إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء‏}‏ من المال ‏{‏يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ بالكفاية والقناعة أو باجتماع الرزقين، وفي الحديث «التمسوا الرزق بالنكاح» وعن عمر رضي الله عنه روي مثله ‏{‏والله واسع‏}‏ غني ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏.‏ وقيل‏:‏ في الآية دليل على أن تزويج النساء والأيامى إلى الأولياء كما أن تزوج العبيد والإماء إلى الموالي‏.‏ قلنا‏:‏ الرجل لا يلي على الرجل الأيم إلا بإذنه فكذا لا يلي على المرأة إلا بإذنها لأن الأيم ينتظمها

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين‏}‏ وليجتهدوا في العفة كأن المستعف طالب من نفسه العفاف ‏{‏لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً‏}‏ استطاعة تزوج من المهر والنفقة ‏{‏حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ حتى يقدرهم على المهر والنفقة‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحسن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» فانظر كيف رتب هذه الأوامر، فأمر أولاً بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصرد ثم بالنكاح المحصن للدين المغني عن الحرام، ثم بعزة النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن تقدر عليه‏.‏

‏{‏والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ أي المماليك الذين يطلبون الكتابة ف ‏{‏الذين‏}‏ مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل يفسره ‏{‏فكاتبوهم‏}‏ وهو للندب ودخلت الفاء لتضمنه معنى الشرط‏.‏ والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة وهو أن يقول لمملوكه‏:‏ كاتبتك على ألف درهم‏.‏ فإن أداها عتق ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك‏.‏ أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق، ويجوز حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم لإطلاق الأمر ‏{‏إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً‏}‏ قدرة على الكسب أو أمانة وديانة والندبية معلقة بهذا الشرط ‏{‏وآتوهم من مال الله الذي آتاكم‏}‏ أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة لقوله تعالى ‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ وعند الشافعي رحمه الله‏:‏ معناه حطوا من بدل الكتابة ربعاً‏.‏ وهذا عندنا على وجه الندب والأول الوجه لأن الإيتاء هو التمليك فلا يقع على الحط‏.‏ سأل صبيح مولاه حويطباً أن يكاتبه فأبى فنزلت‏.‏

واعلم أن العبيد أربعة‏:‏ قن مقتنى للخدمة، ومأذون في التجارة، ومكاتب، وآبق‏.‏ فمثال الأول ولي العزلة الذي حصل العزلة بإيثار الخلوة وترك العشرة، والثاني ولي العشرة فهو نجي الحضرة يخالط الناس للخبرة وينظر إليهم بالعبرة ويأمرهم بالعبرة فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم بحكم الله ويأخذ لله ويعطي في الله ويفهم عن الله ويتكلم مع الله، فالدنيا سوق تجارته، والعقل رأس بضاعته، والعدل في الغضب والرضا ميزانه، والقصد في الفقر والغنى عنوانه، والعز مفزعه ومنحاه، والقرآن كتاب الإذن من مولاه، هو كائن في الناس بظواهره، بائن منهم بسرائره، فقد هجرهم فيما له عليهم في الله باطناً، ثم وصلهم فيما لهم عليه لله ظاهراً

وما هو منهمو بالعيش فيهم *** ولكن معدن الذهب الرغام

يأكل ما يأكلون ويشرب ما يشربون، وما يدريهم أنه ضعيف الله يرى السماوات والأرض قائمات بأمره وكأنه قيل فيه

فإن تفق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال

فحال ولي العزلة أصفى وأحلى، وحال ولي العشرة أوفى وأعلى، ونزل الأول من الثاني في حضرة الرحمن منزلة النديم من الوزير عند السلطان‏.‏ أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو كريم الطرفين ومعدن الشذرين ومجمع الحالين ومنبع الزلالين، فباطن أحواله مهتدي ولي العزلة، وظاهر أعماله مقتدى ولي العشرة، والثالث المجاهد المحاسب العامل المطالب بالضرائب كنجوم المكاتب عليه في اليوم والليلة خمس، وفي المائتي درهم خمسة، وفي السنة شهر، وفي العمر زورة، فكأنه اشترى نفسه من ربه بهذه النجوم المرتبة فيسعى في فكاك رقبته خوفاً من البقاء في ربقة العبودية، وطمعاً في فتح باب الحرية ليسرح في رياض الجنة فيتمتع بمبياه ويفعل ما يشاؤه ويهواه‏.‏ والرابع الإباق فما أكثرهم فمنهم القاضي الجائر والعالم الغير العامل، والعامل المرائي، والواعظ الذي لا يفعل ما يقول ويكون أكثر أقواله فضول وعلى كل ما لا ينفعه يصول فضلا عن السارق والزاني والغاصب فعنهم أخبر النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن الله لينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة» ‏{‏وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء‏}‏ كان لابن أبيّ ست جوار‏:‏ معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، يكرههن على البغاء وضرب عليهن الضرائب، فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فنزلت‏.‏ ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة والبغاء الزنا للنساء خاصة وهو مصدر لبغت ‏{‏إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً‏}‏ تعففاً عن الزنا‏.‏ وإنما قيده بهذا الشرط لأن الإكراه لا يكون إلا مع إرادة التحصن، فآمر المطيعة للبغاء لا يسمى مكرهاً ولا أمره إكراهاً، ولأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة، وفيه توبيخ للموالي أي إذا رغبن في التحصن فأنتم أحق بذلك ‏{‏لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا‏}‏ أي لتبتغوا بإكراههن على الزنا أجورهن وأولادهن ‏{‏وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي لهن، وفي مصحف ابن مسعود كذلك وكان الحسن يقول‏:‏ لهن والله لهن والله‏.‏ ولعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة وهو الذي يخاف منه التلف فكانت آثمة أو لهم إذا تابوا

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات‏}‏ بفتح الياء‏:‏ حجازي وبصري وأبو بكر وحماد‏.‏ والمراد الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت في معاني الأحكام والحدود، وجاز أن يكون الأصل مبيناً فيها فاتسع في الظرف أي أجري مجرى المفعول به كقوله «ويوم شهدناه» وبكسرها غيرهم أي بينت هي الأحكام والحدود جعل الفعل لها مجازاً أو من بين بمعنى تبين ومنه المثل‏.‏

«قد بين الصبح لذي عينين»

‏{‏وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ومثلاً من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم يعني قصة عائشة رضي الله عنها ‏{‏وَمَوْعِظَةً‏}‏ ما وعظ به من الآيات والمثل من نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله‏}‏‏.‏ ‏{‏لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ‏}‏ ‏{‏يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً‏}‏ ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ أي هم المنتفعون بها وإن كانت موعظة للكل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

نظير قوله ‏{‏الله نُورُ السماوات والأرض‏}‏ مع قوله ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ‏}‏ و‏{‏يَهْدِى الله لِنُورِهِ‏}‏ قولك زيد كرم وجود ثم تقول‏:‏ ينعش الناس بكرمه وجوده، والمعنى ذو نور السماوات و‏{‏نُورُ السماوات والأرض‏}‏ الحق شبهه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله‏:‏ ‏{‏الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ أي من الباطل إلى الحق‏.‏ وأضاف النور إليهما للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض، وجاز أن المراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ‏}‏ أي صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة ‏{‏كَمِشْكَاةٍ‏}‏ كصفة مشكاة وهي الكوّة في الجدار غير النافذة ‏{‏فِيهَا مِصْبَاحٌ‏}‏ أي سراج ضخم ثاقب ‏{‏المصباح فِى زُجَاجَةٍ‏}‏ في قنديل من زجاج شامي بكسر الزاي ‏{‏الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ‏}‏ مضيء بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر لفرط ضيائه وصفائه، وبالكسر والهمزة عمرو وعلي كأنه يدرأ الظلام بضوئه، وبالضم والهمزة أبو بكر وحمزة شبه في زهوته بأحد الكواكب الدراري كالمشتري والزهرة ونحوهما ‏{‏يُوقَدُ‏}‏ ‏{‏توقد‏}‏ بالتخفيف‏:‏ حمزة وعلي وأبو بكر الزجاجة و‏{‏يُوقَدُ‏}‏ بالتخفيف‏:‏ شامي ونافع وحفص ‏{‏وتوقد‏}‏ بالتشديد‏:‏ مكي وبصري أي هذا المصباح ‏{‏مِن شَجَرَةٍ‏}‏ أي ابتدأ ثقوبه من زيت شجرة الزيتون يعني رويت ذبالته بزيتها ‏{‏مباركة‏}‏ كثيرة المنافع أو لأنها نبتت في الأرض التي بورك فيها للعالمين‏.‏ وقيل‏:‏ بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام ‏{‏زَيْتُونَةٍ‏}‏ بدل من ‏{‏شجرة‏}‏ نعتها ‏{‏لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ‏}‏ أي منبتها الشام يعني ليست من المشرق ولا من المغرب بل في الوسط منهما وهو الشام وأجود الزيتون زيتون الشام‏.‏ وقيل‏:‏ ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط بل يصيبها بالغداة والعشي جميعها فهي شرقية وغربية‏.‏

‏{‏يَكَادُ زَيْتُهَا‏}‏ دهنها ‏{‏يُضِئ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‏}‏ وصف الزيت بالصفاء والوميض وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار ‏{‏نُّورٌ على نُورٍ‏}‏ أي هذا النور الذي شبه به الحق نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوي النور، وهذا لأن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أجمع لنوره بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينتشر فيه‏.‏ والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه، وضرب المثل يكون بدنيء محسوس معهود لا بعلي غير معاين ولا مشهود فأبو تمام لما قال في المأمون‏:‏

إقدام عمرو في سماحة حاتم *** في حلم أحنف في ذكاء إياس

قيل له‏:‏ إن الخليفة فوق من مثلته بهم فقال مرتجلاً‏:‏

لا تنكروا ضربي له من دونه *** مثلاً شروداً في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره *** مثلاً من المشكاة والنبراس

‏{‏يَهْدِى الله لِنُورِهِ‏}‏ أي لهذا النور الثاقب ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ من عباده أي يوفق لإصابة الحق من يشاء من عباده بإلهام من الله أو بنظره في الدليل ‏{‏وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ‏}‏ تقريباً إلى أفهامهم ليعتبروا فيؤمنوا ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ فيبين كل شيء بما يمكن أن يعلم به‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ مثل نوره أي نور الله الذي هدى به المؤمن‏.‏ وقرأ ابن مسعود رحمه الله ‏{‏مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة‏}‏ وقرأ أبيّ ‏{‏مثل نور المؤمن‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فِى بُيُوتٍ‏}‏ يتعلق ‏{‏بمشكاة‏}‏ أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد كأنه قيل‏:‏ مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، أو ب ‏{‏توقد‏}‏ أي توقد في بيوت، أو ب ‏{‏يسبح‏}‏ أي يسبح له رجال في بيوت‏.‏ و‏{‏فيها‏}‏ تكرير فيه توكيد نحو «زيد في الدار جالس فيها» أو بمحذوف أي سبحوا في بيوت ‏{‏أَذِنَ الله‏}‏ أي أمر ‏{‏أَن تُرْفَعَ‏}‏ تبنى كقوله ‏{‏بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا‏}‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127‏]‏ أن تعظم من الرفعة‏.‏ وعن الحسن‏:‏ ما أمر الله أن ترفع بالبناء ولكن بالتعظيم ‏{‏وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه‏}‏ يتلى فيها كتابه أو هو عام في كل ذكر ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال‏}‏ أي يصلي له فيها بالغداة صلاة الفجر وبالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين‏.‏ وإنما وحد الغدو لأن صلاته صلاة واحدة، وفي الآصال صلوات والآصال جمع أصل جمع أصيل وهو العشي ‏{‏رِجَالٌ‏}‏ فاعل ‏{‏يسبح‏}‏ ‏{‏يسبح‏}‏ شامي وأبو بكر ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة أعني له فيها بالغدو و‏{‏رِجَالٌ‏}‏ مرفوع بما دل عليه ‏{‏يسبح‏}‏ أي يسبح له ‏{‏لاَّ تُلْهِيهِمْ‏}‏ لا تشغلهم ‏{‏تجارة‏}‏ في السفر ‏{‏وَلاَ بَيْعٌ‏}‏ في الحضر‏.‏ وقيل‏:‏ التجارة الشراء إطلاقاً لاسم الجنس على النوع أو خص البيع بعد ماعم لأنه أوغل في الإلهاء من الشراء لأن الربح في البيعة الرابحة متيقن وفي الشراء مظنون ‏{‏عَن ذِكْرِ الله‏}‏ باللسان والقلب ‏{‏وَإِقامِ الصلاة‏}‏ أي وعن إقامة الصلاة‏.‏ التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل إقوام، فلما قلبت الواو ألفاً اجتمع ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فأدخلت التاء عوضاً عن المحذوف، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام التاء فأسقطت ‏{‏وَإِيتاء الزكاة‏}‏ أي وعن إيتاء الزكاة والمعنى لا تجارة لهم حتى تلهيهم كأولياء العزلة، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها غير متثاقلين كأولياء العشرة‏.‏

‏{‏يخافون يَوْماً‏}‏ أي يوم القيامة و‏{‏يخافون‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏تلهيهم‏}‏ أو صفة أخرى ل ‏{‏رجال‏}‏ ‏{‏تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب‏}‏ ببلوغها إلى الحناجر ‏{‏والأبصار‏}‏ بالشخوص والزرقة أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران والأبصار إلى العيان بعد إنكاره للطغيان كقوله ‏{‏فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ أي يسبحون ويخافون ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم أي ليجزيهم ثوابهم مضاعفاً ويزيدهم على الثواب الموعود على العمل تفضلاً ‏{‏والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ أي يثيب من يشاء ثواباً لا يدخل في حساب الخلق‏.‏

هذه صفات المهتدين بنور الله فأما الذين ضلوا عنه فالمذكورون في قوله ‏{‏والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ‏}‏ هو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهر يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري ‏{‏بِقِيعَةٍ‏}‏ بقاع أو جمع قاع وهو المنبسط المستوي من الأرض كجيرة في جار ‏{‏يَحْسَبُهُ الظمان‏}‏ يظنه العطشان ‏{‏مَاءً حتى إِذَا جَاءهُ‏}‏ أي جاء إلى ما توهم أنه ماء ‏{‏لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً‏}‏ كما ظنه ‏{‏وَوَجَدَ الله‏}‏ أي جزاء الله كقوله ‏{‏يجد الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏ أي يجد مغفرته ورحمته ‏{‏عِندَهُ‏}‏ عند الكافر ‏{‏فوفاه حِسَابَهُ‏}‏ أي أعطاه جزاء عمله وافياً كاملاً‏.‏ وحد بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار ‏{‏والله سَرِيعُ الحساب‏}‏ لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد ولا يشغله حساب عن حساب، أو قريب حسابه لأن ما هو آتٍ قريب شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ‏}‏ ‏{‏وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏ قيل‏:‏ نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان يترهب ملتمساً للدين في الجاهلية فلما جاء الإسلام كفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ كظلمات فِى بَحْرٍ‏}‏ «أو» هنا ك «أو» في ‏{‏أَوْ كَصَيّبٍ‏}‏ ‏{‏لُّجّىّ‏}‏ عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر ‏{‏يغشاه‏}‏ يغشى البحر أو من فيه يعلوه ويغطيه ‏{‏مَوْجٍ‏}‏ هو ما ارتفع من الماء ‏{‏مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ‏}‏ أي من فوق الموج موج آخر ‏{‏مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ‏}‏ من فوق الموج الأعلى سحاب ‏{‏ظلمات‏}‏ أي هذه ظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر ‏{‏بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ‏}‏ ظلمة الموج على ظلمة البحر وظلمة الموج على الموج وظلمة السحاب على الموج ‏{‏إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ‏}‏ أي الواقع فيه ‏{‏لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا‏}‏ مبالغة في لم يرها أي لم يقرب أن يراها فضلاً عن أن يراها، شبه أعمالهم أولاً في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجد من خدعه من بعيد شيئاً ولم يكفه خيبة وكمداً أن لم يجد شيئاً كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار، وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ‏}‏ من لم يهده الله لم يهتد عن الزجاج في الحديث ‏"‏ خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ‏"‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ ألم تعلم يا محمد علماً يقوم مقام العيان في الإيقان ‏{‏أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن فِى السماوات والأرض والطير‏}‏ عطف على ‏{‏من‏}‏ ‏{‏صافات‏}‏ حال من ‏{‏الطير‏}‏ أي يصففن أجنحتهن في الهواء ‏{‏كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ‏}‏ الضمير في ‏{‏علم‏}‏ ل ‏{‏كل‏}‏ أو لله، وكذا في صلاته وتسبيحه‏.‏ والصلاة الدعاء ولم يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لايكاد العقلاء يتهتدون إليها ‏{‏والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ لا يعزب عن علمه شيء

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض‏}‏ لأنه خالقهما ومن ملك شيئاً فبتمليكه إياه ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ مرجع الكل ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى‏}‏ يسوق إلى حيث يريد ‏{‏سَحَابًا‏}‏ جمع سحابة دليله ‏{‏ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ‏}‏ وتذكيره للفظ أي يضم بعضه إلى بعض ‏{‏ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً‏}‏ متراكماً بعضه فوق بعض ‏{‏فَتَرَى الودق‏}‏ المطر ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ‏}‏ من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل ‏{‏وَيُنَزّلُ‏}‏ ‏{‏وينزل‏}‏ مكي ومدني وبصري ‏{‏مّنَ السماء‏}‏ لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء ‏{‏مِن جِبَالٍ‏}‏ «من» للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي ‏{‏فِيهَا‏}‏ في السماء ‏{‏مِن بَرَدٍ‏}‏ للبيان أو الأوليان للابتداء والآخرة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها‏.‏ وعلى الأول مفعول ‏{‏ينزل‏}‏ ‏{‏من جبال‏}‏ أي بعض جبال فيها ومعنى ‏{‏من جبال فيها من برد‏}‏ أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر أو يريد الكثرة بذكر الجبال كما يقال «فلان يملك جبالاً من ذهب» ‏{‏فَيُصِيبُ بِهِ‏}‏ بالبرد ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ أي يصيب الإنسان وزرعه ‏{‏وَيَصْرِفُهُ عَمَّن مَا يَشَاء‏}‏ فلا يصيبه أو يعذب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فلا يعذبه ‏{‏يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ‏}‏ ضوؤه ‏{‏يَذْهَبُ بالأبصار‏}‏ يخطفها به ‏{‏يَذْهَبُ‏}‏ يزيد على زيادة الباء

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏يُقَلّبُ الله اليل والنهار‏}‏ يصرفهما في الاختلاف طولاً وقصراً والتعاقب ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ في إزجاء السحاب وإنزال الودق والبرد وتقليب الليل والنهار ‏{‏لَعِبْرَةً لأَِوْلِى الأبصار‏}‏ لذوي العقول‏.‏ وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وما يطير بينهما ودعاءهم له وتسخير السحاب إلى آخر ما ذكر، فهي براهين لائحة على وجوده ودلائل واضحة على صفاته لمن نظر وتدبر‏.‏ ثم بين دليلاً آخر فقال تعالى‏.‏

‏{‏والله خَلَقَ كُلَّ‏}‏ ‏{‏خالق كل‏}‏ حمزة وعلي ‏{‏دَابَّةٍ‏}‏ كل حيوان يدب على وجه الأرض ‏{‏مِن مَّاء‏}‏ أي من نوع من الماء مختص بتلك الدابة أو من ماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة فمنها هوام ومنها بهائم ومنها أناسي وهو كقوله ‏{‏يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ و‏]‏ هذا دليل على أن لها خالقاً ومدبراً وإلا لم تختلف لإتفاق الأصل‏.‏ وإنما عرف الماء في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَئ حَىّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30‏]‏ لأن المقصود ثم أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء وأنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط‏.‏ قالوا‏:‏ إن أول ما خلق الله الماء فخلق منه النار والريح والطين، فخلق من النار الجن، ومن الريح الملائكة، ومن الطين آدم ودواب الأرض، ولما كانت الدابة تشمل المميز وغير المميز غلب المميز فأعطى ما وراءه حكمه كأن الدواب كلهم مميزون فمن ثم قيل ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ‏}‏ كالحية والحوت‏.‏ وسمي الزحف على البطن مشياً استعارة كما يقال في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر، أو على طرائق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ‏}‏ كالإنسان والطير ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ‏}‏ كالبهائم وقدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو غيرها ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع ‏{‏يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء‏}‏ كيف يشاء ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ لا يتعذر عليه شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 49‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏ وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات والله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ بلطفه ومشيئته ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ إلى دين الإسلام الذي يوصل إلى جنته والآيات لإلزام حجته لما ذكر إنزال الآيات، ذكر بعدها افتراق الناس إلى ثلاث فرق‏:‏ فرقة صدقت ظاهراً وكذبت باطناً وهم المنافقون، وفرقة صدقت ظاهراً وباطناً وهم المخلصون، وفرقة كذبت ظاهراً وباطناً وهم الكافرون على هذا الترتيب‏.‏ وبدأ بالمنافقين فقال‏:‏ ‏{‏وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول‏}‏ بألسنتهم ‏{‏وَأَطَعْنَا‏}‏ الله والرسول ‏{‏ثُمَّ يتولى‏}‏ يعرض عن الانقياد لحكم الله ورسوله ‏{‏فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذلك‏}‏ أي من بعد قولهم آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ‏{‏وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين‏}‏ أي المخلصين وهو إشارة إلى القائلين آمنا، وأطعنا، لا إلى الفريق المتولي وحده‏.‏ وفيه إعلام من الله بأن جميعهم منتفٍ عنهم الإيمان لاعتقادهم ما يعتقد هؤلاء والإعراض وإن كان من بعضهم فالرضا بالإعراض من كلهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ‏}‏ أي إلى رسول الله كقولك «أعجبني زيد وكرمه» تريد كرم زيد ‏{‏لِيَحْكُمَ‏}‏ الرسول ‏{‏بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ أي فاجأ من فريق منهم الإعراض نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق إلى كعب بن الأشرف ويقول‏:‏ إن محمداً يحيف علينا ‏{‏وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق‏}‏ أي إذا كان الحق لهم على غيرهم ‏{‏يَأْتُواْ إِلَيْهِ‏}‏ إلى الرسول ‏{‏مُذْعِنِينَ‏}‏ حال أي مسرعين في الطاعة طلباً لحقهم لا رضا بحكم رسولهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الإذعان الإسراع مع الطاعة‏.‏ والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المر والعدل البحث يمتنعون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك لتأخذ لهم ما وجب لهم في ذمة الخصم

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ‏}‏ قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين الحيف في قضائه‏.‏ ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله ‏{‏بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ أي لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام فمن ثم يأبون المحاكمة إليه‏.‏

‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين‏}‏ وعن الحسن ‏{‏قول‏}‏ بالرفع، والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أوغلهما في التعريف وأن يقولوا أوغل بخلاف ‏{‏قول المؤمنين‏}‏ ‏{‏إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ‏}‏ النبي عليه الصلاة والسلام ليحكم أي ليفعل الحكم ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ بحكم الله الذي أنزل عليه ‏{‏أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا‏}‏ قوله ‏{‏وَأَطَعْنَا‏}‏ أمره ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ الفائزون ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله‏}‏ في فرائضه ‏{‏وَرَسُولُهُ‏}‏ في سننه ‏{‏وَيَخْشَ الله‏}‏ على ما مضى من نوبه ‏{‏وَيَتَّقْهِ‏}‏ فيما يستقبل ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون‏}‏ وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية‏.‏ وهي جامعة لأسباب الفوز ‏{‏ويتقه‏}‏ بسكون الهاء‏:‏ أبو عمرو وأبو بكر بنية الوقف، وبسكون القاف وبكسر الهاء مختلسة‏:‏ حفص، وبكسر القاف والهاء، غيرهم‏.‏

‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم‏}‏ أي حلف المنافقون بالله جهد اليمين لأنهم بذلوا فيها مجهودهم‏.‏ وجهد يمينه مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وذلك إذا بالغٍ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ من قال بالله فقد جهد يمينه‏.‏ وأصل أقسم جهد اليمين أقسم بجهد اليمين جهداً فحذف الفعل وقدم المصدر فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول كقوله ‏{‏فضرب الرقاب‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏ وحكم هذا المنصوب حكم الحال كأنه قال جاهدين أيمانهم ‏{‏لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ‏}‏ أي لئن أمرنا محمد بالخروج إلى الغزو لغزونا أو بالخروج من ديارنا لخرجنا ‏{‏قُل لاَّ تُقْسِمُواْ‏}‏ لا تحلفوا كاذبين لأنه معصية ‏{‏طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ‏}‏ أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة، مبتدأ محذوف الخبر أو خبر مبتدأ محذوف أي الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب كطاعة الخلص من المؤمنين لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيء من سرائركم وإنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات وهو أبلغ في تبكيتهم ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ‏}‏ يريد فإن تتولوا فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله تعالى وكلفه من أداء الرسالة فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه ‏{‏وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ‏}‏ أي وإن أطعتموه فيما يأمركم وينهاكم فقد أحرزتم نصيبكم من الهدى، فالضرر في توليكم والنفع عائدان إليكم ‏{‏وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ وما على الرسول إلا أن يبلغ ما له نفع في قلوبكم ولا عليه ضرر في توليكم‏.‏ والبلاغ بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية، والمبين الظاهر لكونه مقروناً بالآيات والمعجزات‏.‏ ثم ذكر المخلصين فقال

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

ثم ذكر المخلصين فقال ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ولمن معه و‏{‏منكم‏}‏ للبيان‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به المهاجرون و«من» للتبعيض ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض‏}‏ أي أرض الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ أرض المدينة‏.‏ والصحيح أنه عام لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل ‏"‏ ‏{‏كَمَا استخلف‏}‏ استخلف أبو بكر ‏{‏الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذى ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ‏}‏ ‏{‏وليبدلنهم‏}‏ بالتخفيف‏:‏ مكي وأبو بكر ‏{‏مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً‏}‏ وعدهم الله أن ينصر الاسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة، وأن يمكن الدين المرتضى وهو دين الاسلام، وتمكينه تثبيته وتعضيده وأن يؤمن سربهم ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه‏.‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل‏:‏ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس معه حديدة ‏"‏ فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وافتتحوا أبعد بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا‏.‏ والقسم المتلقى باللام والنون في ‏{‏ليستخلفنهم‏}‏ محذوف تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم، أو نزل وعد الله في تحققه منزلة القسم فتلقى بما يتلقى به القسم كأنه قيل‏:‏ أقسم الله ليستخلفنهم ‏{‏يَعْبُدُونَنِى‏}‏ إن جعلته استئنافاً فلا محل له كأنه قيل‏:‏ ما لهم يستخلفون ويؤمنون‏؟‏ فقال‏:‏ يعبدونني موحدين، ويجوز أن يكون حالاً بدلاً من الحال الأولى‏.‏ وإن جعلته حالاً عن وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم فمحله النصب ‏{‏لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً‏}‏ حال من فاعل يعبدون أي يعبدونني موحدين، ويجوز أن يكون حالاً بدلاً من الحال الأولى‏.‏

‏{‏وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك‏}‏ أي بعد الوعد والمراد كفران النعمة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة الجسيمة وجسروا على غمطها‏.‏ قالوا‏:‏ أول من كفر هذه النعمة قتلة عثمان رضي الله عنه فاقتتلوا بعدما كانوا إخواناً وزال عنهم الخوف، والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏واقيموا الصلاة‏}‏ معطوف على ‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏ ولا يضر الفصل وإن طال ‏{‏وَاتُواْ الزكواة وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ فيما يدعوكم إليه وكررت طاعة الرسول تأكيداً لوجوبها ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ أي لكي ترحموا فإنها من مستجلبات الرحمة ثم ذكر الكافرين فقال ‏{‏لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض‏}‏ أي فائتين الله بأن لا يقدر عليهم فيها، فالتاء خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام وهو الفاعل والمفعولان ‏{‏الذين كفروا‏}‏ و‏{‏معجزين‏}‏ وبالياء شامي وحمزة والفاعل النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره والمفعولان ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ و‏{‏معجزين‏}‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ النار‏}‏ معطوف على ‏{‏لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ‏}‏ كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ الذين كَفَرُواْ لاَ يفوتون الله وَمَأْوَاهُمُ النار ‏{‏وَلَبِئْسَ المصير‏}‏ أي المرجع النار‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ أمر بأن يستأذن العبيد والإماء ‏{‏والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ‏}‏ أي الأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار، وقريء بسكون اللام تخفيفاً ‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏ في اليوم والليلة وهي ‏{‏مّن قَبْلِ صلاة الفجر‏}‏ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة ‏{‏وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مّنَ الظهيرة‏}‏ وهي نصف النهار في القيظ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة ‏{‏وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء‏}‏ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم ‏{‏ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ‏}‏ أي هي أوقات ثلاثة عورات فحذف المبتدأ والمضاف‏.‏ وبالنصب‏:‏ كوفي غير حفص بدلاً من ‏{‏ثلاث مرات‏}‏ أي أوقات ثلاث عورات‏.‏ وسمي كل واحد من هذه الأحوال عورة لأن الإنسان يختل تستره فيها، والعورة‏:‏ الخلل ومنها الأعور المختل العين‏.‏ دخل غلام من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو على عمر رضي الله عنه وقت الظهيرة وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ وددت أن الله نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بالإذن، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزلت عليه الآية‏.‏ ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات بقوله ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ‏}‏ أي لا إثم عليكم ولا على المذكورين في الدخول بغير استئذان بعدهن‏.‏ ثم بين العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله ‏{‏طَوافُونَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي هم طوافون بحوائج البيت ‏{‏بَعْضُكُمْ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏على بَعْضٍ‏}‏ تقديره بعضكم طائف على بعض فحذف طائف لدلالة ‏{‏طوافون‏}‏ عليه، ويجوز أن تكون الجملة بدلاً من التي قبلها وأن تكون مبينة مؤكدة يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج وهو مدفوع في الشرح بالنص ‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ أي كما بين حكم الاستئذان يبين لكم غيره من الآيات التي احتجتم إلى بيانها ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بمصالح عباده ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ في بيان مراده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ‏}‏ أي الأحرار دون المماليك ‏{‏الحلم‏}‏ أي الاحتلام أي إذا بلغوا وأرادوا الدخول عليكم ‏{‏فَلْيَسْتَأْذِنُواْ‏}‏ في جميع الأوقات ‏{‏كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي الذين بلغوا الحلم من قبلهم وهم الرجال، أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ‏}‏ الآية‏.‏ والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا بالاحتلام أو بالسن وجب أن يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن، والناس عن هذا غافلون، وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ثلاث آيات جحدهن الناس‏:‏ الإذن كله وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏وَإِذَا حَضَرَ القسمة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ يقولون هي منسوخة والله ما هي بمنسوخة وقوله ‏{‏كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ‏}‏ بمصالح الأنام ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما يبين من الأحكام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏والقواعد‏}‏ جمع قاعد لأنها من الصفات المختصة بالنساء كالطالق والحائض أي اللاتي قعدن عن الحيض والولد لكبرهن ‏{‏مّنَ النساء‏}‏ حال ‏{‏اللاتى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً‏}‏ لا يطمعن فيه وهي في كل الرفع صفة للمبتدأ وهي القواعد والخبر ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ‏}‏ إثم ودخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط بسبب الألف واللام ‏{‏أَن يَضَعْنَ‏}‏ في أن يضعن ‏{‏ثِيَابَهُنَّ‏}‏ أي الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار ‏{‏غَيْرِ‏}‏ حال ‏{‏متبرجات بِزِينَةٍ‏}‏ أي غير مظهرات زينة يريد الزينة الخفية كالشعر والنحر والساق ونحو ذلك أي لا يقصدن بوضعها التبرج ولكن التخفيف، وحقيقة التبرج يكلف إظهاراً ما يجب إخفاؤه ‏{‏وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ‏}‏ أي يطلبن العفة عن وضع الثياب فيستترون وهو مبتدأ خبره ‏{‏خَيْرٌ لَّهُنَّ والله سَمِيعٌ‏}‏ لما يعلن ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بما يقصدن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ‏}‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والمريض والأعرج وعند أقاربهم ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم، وكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون‏:‏ نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة فنزلت الآية رخصة لهم ‏{‏وَلاَ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ أي حرج ‏{‏أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ‏}‏ أي بيوت أولادكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ولذا لم يذكر الأولاد في الآية، وقد قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ أنت ومالك لأبيك ‏"‏ أو بيوت أزواجكم لأن الزوجين صار كنفس واحدة فصار بيت المرأة كبيت الزوج ‏{‏أو بيوت ءَابائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم‏}‏ لأن الإذن من هؤلاء ثابت دلالة ‏{‏أوما ملكتم مّفاتحة‏}‏ جمع مفتح وهو ما يفتح به الغلق، قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ هو وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته، له أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته‏.‏ وأريد بملك المفاتح كونها في يده وحفظه‏.‏ وقيل‏:‏ أريد به بيت عبده لأن العبد وما في يده لمولاه ‏{‏أَوْ صَدِيقِكُمْ‏}‏ يعني أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحداً وجمعاً وهو من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك، وكان الرجل من السلف يدخل دارٍ صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سروراً بذلك، فأما الآن فقد غلب الشح على الناس فلا يؤكل إلا بإذن‏.‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً‏}‏ مجتمعين ‏{‏أَوْ أَشْتَاتاً‏}‏ متفرقين جمع شت‏.‏ نزلت في بني ليث بن عمرو وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة، أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم، أو تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً‏}‏ من هذه البيوت لتأكلوا ‏{‏فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ أي فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة أو بيوتاً فارغة أو مسجداً فقولوا‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ‏{‏تَحِيَّةً‏}‏ نصب ب ‏{‏سلموا‏}‏ لأنها في معنى تسليماً نحو «قعدت جلوساً» ‏{‏مِنْ عِندِ الله‏}‏ أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه، أو لأن التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله ‏{‏مباركة طَيّبَةً‏}‏ وصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ لكي تعقلوا وتفهموا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 63‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏62‏)‏ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ‏}‏ أي الذي يجمع له الناس نحو الجهاد والتدبير في الحرب وكل اجتماع في الله حتى الجمعة والعيدين ‏{‏لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَذِنُوهُ‏}‏ أي ويأذن لهم‏.‏ ولما أراد الله عز وجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه إذا كانوا معه على أمر جامع، جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره‏.‏ وذلك مع تصدير الجملة ب ‏{‏إنما‏}‏ وإيقاعٍ المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله ‏{‏إِنَّ الذين يَسْتَذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ وضمنه شيئاً آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين وعرض بحال المنافقين وتسللهم لوإذاً ‏{‏فَإِذَا استذنوك‏}‏ في الانصراف ‏{‏لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ‏}‏ أمرهم ‏{‏فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ‏}‏ فيه رفع شأنه عليه الصلاة والسلام ‏{‏واستغفر لَهُمُ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأفضل أن لا يستأذن‏.‏ قالوا‏:‏ وينبغي أن يكون الناس كذلك مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يتفرقون عنهم إلا بإذن، قيل‏:‏ نزلت يوم الخندق كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان ‏{‏لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً‏}‏ أي إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضاً ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه، فلا تقولوا يا محمد ولكن يا نبي الله يا رسول الله مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض‏.‏

‏{‏قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ‏}‏ يخرجون قليلاً قليلاً ‏{‏مِنكُمْ لِوَاذاً‏}‏ حال أي ملاوذين اللواذ‏.‏ والملاوذة هو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا أي ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ أي الذين يصدون عن أمره دون المؤمنين وهم المنافقون‏.‏ يقال‏:‏ خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه ومنه‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ وخالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه‏.‏ والضمير في ‏{‏أمره‏}‏ لله سبحانه أو للرسول عليه الصلاة والسلام والمعنى عن طاعته ودينه ومفعول ‏{‏يحذر‏}‏ ‏{‏أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ محنة في الدنيا أو قتل أو زلازل وأهوال أو تسليط سلطان جائر أو قسوة القلب عن معرفة الرب أو إسباغ النعم استدراجاً ‏{‏أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏ والآية تدل على أن الأمر للإيجاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض‏}‏ «ألا» تنبيه على أن لا يخالفوا أمر من له ما في السماوات والأرض ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ أدخل «قد» ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، والمعنى أن جميع ما في السماوات والأرض مختص به خلقاً وملكاً وعلماً فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجهدون في سترها‏؟‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ وبفتح الياء وكسر الجيم‏:‏ يعقوب أي ويعلم يوم يردون إلى جزائه وهو يوم القيامة‏.‏ والخطاب والغيبة في قوله ‏{‏قد يعلم‏}‏ ‏{‏ما أنتم عليه‏}‏ ‏{‏ويوم يرجعون إليه‏}‏ يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات، ويجوز أن يكون ‏{‏ما أنتم عليه‏}‏ عاماً و‏{‏يرجعون‏}‏ للمنافقين ‏{‏فَيُنَبّئُهُمْ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ بما أبطنوا من سوء أعمالهم ويجازيهم حق جزائهم ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ فلا يخفي عليه خافية‏.‏ ورُوي أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ سورة النور على المنبر في الموسم وفسرها على وجه لو سمعت الروم به لأسلمت والله أعلم‏.‏